كتابة المهندس سطام بن عبدالله آل سعد
مستشار التنمية المستدامة
منصة X : sattam_Alsaad
أحيانًا لا تحفظ هوية الوطن في كتب التاريخ، بل في قطعة قماش منسية، أو دلة قديمة، أو محراث متهالك يرقد في ركن متحف خاص. هناك، حيث تتنفس الذاكرة بصمت؛ بلا كاميرات، ولا منصات، ولا ميزانيات. فبين جدران تلك المتاحف الأهلية، ينجلي التاريخ كما هو شعبيا، يوميًا، صادقا، ليس كما أرادته السرديات. إنها مساحات روحية أكثر من كونها عمرانية، ينحتها الأفراد من ذاكرتهم، ومن حبّ تموّله ميزانية محدودة.
في هذا السياق، برز مواطنون اختاروا أن يكونوا أوصياء على الذاكرة التراثية فأنشأوا متاحف خاصة خارج الأطر الرسمية، مدفوعين بالشغف، والوعي، والإحساس العميق بالمسؤولية تجاه تراث الوطن. وهذه المتاحف، كما قد يظن، لم تعد هوايات شخصية أو مقتنيات معروضة، إنما باتت تشكّل مكونا ثقافيًا متجذرا، يسهم في حفص تفاصيل الحياة اليومية للمجتمعات المحلية، بكل ما تحمله من أدوات وطقوس وممارسات، كان مصيرها الضياع لولا هذه المبادرات الفردية. فهي لا ترصد ما دونه المؤرخون، بل ما عايشه الناس في بيوتهم وأسواقهم واحتفالاتهم، وترصد العيش البسيط الذي صاغ الهوية الجمعية، والذي كثيرًا ما يُهمش في الروايات والقصص الأدبية.
وهنا يتجلّى جوهر هذه المتاحف في حفظ الذاكرة الجمعية كما عاشها الناس، لا كما صنعت لهم. فهي تقدم قراءة موازية ومكملة للتاريخ، ونابعة من الأرض، ومن البيوت الطينية، ومن الأسواق القديمة، والأعراس الشعبية، ومن القصص التي لم تصل إلى الوثائق، لكنها عاشت في الذاكرة الشفوية.
ورغم ذلك، تواجه هذه المتاحف تحديات عدة، أبرزها غياب الدعم المؤسسي، وقصور الأنظمة في احتضانها، وانعدام الاستقرار المالي لأصحابها. وغالبًا ما تُدار هذه المتاحف بجهود شخصية، دون وجود بنية احترافية للحفظ أو الترميم، ما يجعلها عرضة للاندثار، أو للبيع، أو الإغلاق.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في تهالك مبنى متحف خاص أو انطفاء شغف صاحبه، لكن في فقدان الذاكرة المجتمعية بصمت، حين تترك التفاصيل الصغيرة التي تشكّل هوية المكان والناس لتُمحى بهدوء، أو تُختزل في روايات سطحية لا تعبر عن عمق الواقع.
إن ضياع هذه المتاحف هو ضياع للطبقات الخفية من تاريخنا، تلك التي لا توثقها المناهج ولا تعني بها الكاميرات الرسمية. وعندما تترك الذاكرة في يد العشوائية، فإن الهوية تصبح هشة، سهلة التزوير، قابلة للتفريغ من الداخل. وهنا يكمن الخطر الاستراتيجي: أن يفقد الوطن حقيقته، ويصبح تاريخه منتجا معلبا لا علاقة له بجذوره، ولا روح فيه.
وعليه، فإن حماية هذه المتاحف واجبًا ثقافيًا، ومسؤولية وطنية تتطلب تحركا استراتيجيًا من الجهات المعنية: دعما ماليا، واعترافا رسميًا، وإدماجا ضمن المنظومة السياحية والتعليمية والثقافية لضمان استدامتها، وتوسيع أثرها، وتطوير أدواتها.
المتاحف الخاصة ليست مجرد رفوف تُعلّق عليها المقتنيات، بل هي نضال صامت ضد النسيان، وصوت يقول للأجيال القادمة: هذا ما كنا عليه... فافهموه، واحتفظوا به، وابدأوا منه.