الاستدامة الثقافية: العنصر الغائب في معادلة التنمية المستدامة

منذ سنة

م. سطام بن عبدالله ال سعد 
مستشار التنمية المستدامة

‏: @Sattam_Alsaad                                                          

عند الحديث عن الاستدامة في التنمية بشكل عام، يمكن تحديدها من خلال مجموعة من المؤشرات القابلة للقياس مثل معدلات الفقر، ومستويات التعليم، ونسب التلوث، ومعدلات الجريمة، وحالة الصحة العامة، والمساواة بين الجنسين والدخل القومي وغيرها؛ لكن عندما ننتقل إلى المجال الثقافي، نجد أن الأمور تصبح أكثر تعقيدًا، وذلك لأن الثقافة لا تنحصر في الجوانب المادية فقط، بل تشمل أيضًا أبعادًا غير ملموسة يصعب قياسها.
هناك تحديات في تعريف الاستدامة الثقافية، ولكن بالإمكان تعريفها بأنها القدرة على التعامل مع المجال الثقافي في الحاضر والمستقبل بكل مكوناته، بما في ذلك إنتاج ونقل وتداول المعرفة، والصناعات الثقافية والتراثية، والفنون السمعية والبصرية. وتهدف الإستدامة الثقافية إلى دمج هذه العناصر بشكل فعال مع بقية مجالات المجتمع لبناء المعرفة والفهم والوعي لدى الأجيال الحالية والمستقبلية. ويتطلب هذا، الحفاظ على التراث الثقافي، وتعزيز الصناعات الإبداعية، والإرتقاء بالفنون بجميع أشكالها، لضمان استمرارية وتأثير الثقافة على جميع جوانب الحياة المجتمعية والتنموية.
إن التحدي لا يكمن فقط في تعريف الاستدامة الثقافية، بل يمتد أيضًا إلى قياسها، فالثقافة عنصر أساسي من عناصر التنمية، وغالبًا ما يتم تجاهلها أثناء التخطيط للتنمية. وبالرغم من صعوبة تطوير مؤشرات لقياس استدامة المجال الثقافي، إلا أن الجهود الأكاديمية قد أحرزت تقدماً في ذلك، بتقديم مؤشرات لمجتمع المعرفة، والتنافسية، وجودة التعليم، والشفافية والنزاهة، والحرية المدنية، حيث يمكن استخدام بعض هذه المؤشرات أو أجزاء منها لقياس الاستدامة الثقافية، ولكن من الأهمية بمكان، البحث عن مؤشرات جديدة تقيس الجوانب المعنوية المتعلقة بالفهم والتفكير، وذلك لقياس مدى تأثير الثقافة على طرق التفكير وأساليب الفهم، وأيضاّ مؤشرالاعتقاد والذي يدرس تأثير الثقافة على المعتقدات والمبادئ، وكذلك مؤشر التذوق الفني والجمالي لتقييم مدى تأثير الثقافة على الحس الجمالي والقدرة على التذوق الفني.
إنّ التكوين الوجودي للإنسان يتضمن الجانب البيولوجي الذي يمنح الطاقة للقيام بالنشاطات اليومية والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ويتضمن كذلك الجوانب العقلية والنفسية والوجدانية التي تشكل الأساس الثقافي، مما يمنح الإنسان طاقة معرفية وجمالية، وبناءاً على ذلك، لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة دون دمج الثقافة معها، فهي ليست مجرد ترف، بل هي عنصر ضروري يسهم في تحسين جودة الحياة وكذلك التنمية المستدامة.
وتتضمن جوانب الاستدامة الثقافية عدة محاور هامة تسعى إلى إيجاد توازن واستمرارية في المشهد الثقافي. أولا، استمرارية السياسات الثقافية واستقرارها لضمان الحفاظ على الهوية الثقافية ومواجهة تحديات العولمة، وهو ما يستلزم وضع سياسات متينة ومستدامة لحماية الموروث الثقافي للأجيال القادمة. ثانيا، رسم ثقافة المستقبل لتواكب التطورات العالمية وتحديات العصر، مما يستدعي تحديث الممارسات الثقافية لتتوافق مع التغيرات التكنولوجية والاجتماعية. ثالثا، بناء الأجيال القادمة من خلال ترسيخ الثقافة في عقولهم واهتماماتهم بتقديم البرامج التعليمية والمبادرات الثقافية التي تعزز من فهم وتقدير الأجيال الشابة لتراثهم وثقافتهم وهويتهم الوطنية أيضاً. بالإضافة إلى إنتاج المعرفة وتدفقها، مع التركيز على التعليم والتربية الأخلاقية والجمالية، لضمان مجتمع واعٍ ومتعلم يستطيع تقدير الجوانب الجمالية والأخلاقية للثقافة وتطبيقها في حياته اليومية.
تنص رؤية 2030 على أن الثقافة "لا غنى عنها لنوعية حياتنا" وتشير إلى أنه يجب على المملكة زيادة كل من نوعية وكمية نشاطها الثقافي، وستقوم وزارة الثقافة بالإشراف على ذلك. فالإرادة السياسية وتحديد الأهداف العامة للمجتمع وتشريعاته تُعتبر الأساس في الوصول لأي تنمية مستدامة، وهنا يجب على الحكومات أن تتبنى سياسات تدعم الثقافة كجزء أساسي من التنمية، ولبلوغ الازدهار والتنوير في المجال الثقافي، يحتاج الأمر عدة عوامل مهمة، منها استقلالية المجال الثقافي بعيداً عن سيطرة أصحاب الوصايا الذين يستخدمون الأيديولوجية كغطاء، وكذلك تمكين التعليم والتربية الثقافية في المناهج الدراسية، ودعم المبادرات الثقافية والمبدعين، وتشجيع التنوع الثقافي والحفاظ على التراث الثقافي، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص في المجالات الثقافية، كل هذه العوامل تسهم في بناء مجتمع واعٍ، متقدم، ومزدهر ثقافيًا.​
باستخدام هذه المؤشرات، يمكن ضبط السياسات الثقافية وتوجيهها نحو التحسين المستمر، مما يوطد من الاستدامة الثقافية ويعمق الاعتقاد بأهمية الثقافة في حياتنا، وبهذه الطريقة يمكن أن تتحول السياسات الثقافية إلى أدوات فعالة لتلبية التنمية المستدامة.