قرية الفاو الأثرية: رمز للحضارة العربية في قائمة التراث العالمي.

منذ سنة

إعداد: شهد محمد الراشدي 

تعد قرية الفاو الأثرية كنزًا أثريًا يحمل تاريخًا عريقًا وحضارة مزدهرة، تقع على بعد 700 كيلومتر جنوب غرب الرياض، في موقع استراتيجي يسيطر على طرق التجارة القديمة، وقد كانت عاصمة لمملكة كندة، إحدى أقدم الممالك العربية، واستمرت لقرون طويلة مركز تجاري وسياسي وثقافي مهم، تشير الكتابات القديمة والمصادر التاريخية إلى أن الفاو كانت محط أنظار التجار والقوافل، حيث كانت ملتقى للحضارات، وقد تركت إرثًا حضاريًا غنيًا يشمل معابد وقصورًا وأسواقًا، يعكس مستوى رفيعًا من التطور العمراني والفنون، إن موقع الفاو الاستراتيجي وأهميته التاريخية جعلته مركزًا جاذبًا للعلماء والباحثين الذين يسعون لفهم المزيد عن الحضارات القديمة في شبه الجزيرة العربية.

ينقسم موقع الفاو الأثري إلى قسمين رئيسين هما: السوق والمنطقة السكنية.
السوق، الواقع شمال المنطقة السكنية، عبارة عن بناء متعدد الطوابق يحيط به سور عال وأبراج للحراسة، يشير هذا التصميم المدروس إلى أهمية التجارة في حياة سكان الفاو، وتدلي البئر الدائرية الواقعة في وسط السوق وقناة الصرف المتصلة بها على اهتمام سكان الفاو بتوفير المياه النظيفة والصرف الصحي، مما يعكس مستوى عاليًا من التخطيط العمراني، أما المنطقة السكنية فتمتاز بتخطيطها المتعامد وتضم هذه المنطقة مجموعة متنوعة من المباني السكنية والمرافق العامة، مما يشير إلى وجود مجتمع متماسك ومتطور.

قد كشفت التنقيبات الأثرية التي استمرت لأكثر من أربعين عامًا النسيج العمراني للمدينة حيث يتكون من منطقتين رئيسيتين: منطقة سكنية تضم منازل وساحات وطرقات متعددة، ومنطقة سوق رئيسة تضم مرافق وخدمات حيوية مثل الآبار والقنوات وخان القوافل، وتعتبر المنطقة السكنية شهادة حية على حياة الناس في العصور القديمة، حيث تقدم تصورًا واضحًا لتخطيط المدن العربية قبل الإسلام، وتشير هذه الاكتشافات إلى أن الفاو كانت مدينة مزدهرة ومتقدمة حضاريًا، وكشف أيضا على مجموعة متنوعة من الآنية والحلي والأدوات التي تشير إلى وجود نظام اقتصادي متطور وعلاقات تجارية واسعة، كما اكتشفت نقوش كتابية ورسوم جدارية.

تدل الكتابات والرسوم المكتشفة في الفاو على تفاعل سكانها مع الحضارات المجاورة فقد استخدموا الخط المسند الجنوبي للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، أما لغتهم فكانت مزيجًا بين لغة الشمال والجنوب، كما أن تنوع موضوعات الكتابات، التي تتراوح بين التجارية والشخصية والدينية، يدل على ثراء الحياة الثقافية في الفاو وتأثرها بالعوامل الاجتماعية.

أعلنت هيئة التراث في 2022 عن اكتشافات مذهلة ومن أبرزها العثور على منطقة مقدسة في الواجهة الصخرية لأطراف جبال طويق المعروفة باسم خشن قرية، حيث كان سكان الفاو يمارسون شعائرهم الدينية، كما تم اكتشاف آلاف المقابر، ونقوش تعبدية تعود إلى آلاف السنين، مما يسلط الضوء على عمق الحضارة في هذه المنطقة، بالإضافة إلى ذلك، كشفت التنقيبات عن أدلة على علاقات تجارية واسعة بين الفاو ومناطق أخرى، مثل الجرهاء، مما يعزز مكانة الفاو كمركز تجاري مهم في العصور القديمة.

تكشف اكتشافات نظام الري المتطور عن عبقرية الإنسان القديم في التكيف مع بيئته القاسية، فقد استطاع سكان الفاو، من خلال حفر مئات الخزانات الأرضية، لحصاد مياه الأمطار والسيول وتخزينها للاستخدام الزراعي -على مدار العام-. مما يسلط الضوء على قدرة الإنسان على التكيف مع الظروف البيئية الصعبة والبقاء فيها، ويعكس العلاقة الوثيقة بين الإنسان والبيئة في العصور القديمة.

في عام 2024، تم تسجيل موقع الفاو الأثري رسميًا في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، هذا الإدراج يؤكد القيمة الاستثنائية وقد تم اختيار الفاو لهذا الشرف نظرًا لكونها مثالًا فريدًا على التخطيط العمراني المتقدم في العصور القديمة، حيث تجمع بين نظام صرف صحي متطور وشوارع منتظمة وأحياء سكنية منظمة، كما أثبتت الاكتشافات الأثرية الغنية، مثل النقوش والتماثيل والمعابد، أهمية الفاو كمركز ديني وتجاري، هذا الإدراج الدولي سيساهم في حماية الموقع من التدهور، وجذب المزيد من الاستثمارات لعمليات الترميم والتنقيب، وتعزيز السياحة الثقافية المستدامة.